«حجّي رمضان» في سوق الأسهم

«حجّي رمضان» في سوق الأسهم

2006-09-23 17:29:38 UAE

«حجّي رمضان» في سوق الأسهم 

بقلم :أحمد إبراهيم

على بوابة سوق الأسهم، كان حجي شعبان يهم للخروج بحقيبة فاضية، حين دخل حجي رمضان بحقيبة مملوءة، فتواجها على ملتقى الطرق من مدخل البورصة، حيث تلتقي دائما الوجوه الضاحكة بالعابسة، والمستبشرة بشموخ بالمنكوسة عن أي طموح، ويتكون هنا كوكتيل ابتسامات.. ابتسامة فخر وانتصار، وابتسامة خزل وانتحار، كل يشغله شاغل واحد؛ (أسهم وأسهم) ويجمعه صوت واحد: (ربحت وربحت.. خسرت وخسرت).

بوابة سوق الأسهم حيث رودان الحجاج وعلى رأسهم (حجي شعبان القديم في السوق لكن الخسران وحجي رمضان المخضرم الخبير الربحان، وحجي رجب المستجد اللاحق الجديد الحيران.. .!)، لا يهمهم من فضيل الشهور الثلاثة إلا نتائج الفصل الثالث، ولا يرون من مؤشرات (قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

رجب شهري، وشعبان شهر أمتي، ورمضان شهر الله) إلا مؤشر السوق، ولا يتابعون على الأفق من ألوان الأهلة والمواقيت والخيط الأبيض والأسود إلا اللون الأخضر والأحمر من شاشات التداول. فإلى (الأملاك) قبل الإمساك يا الحجاج.. وإلى (الإعمار) قبل الإفطار يا الحجاج.. وإلى (الدانة) قبل الرزانة يا الحجاج، وإلى (الآبار) قبل الأعمال يا الحجاج.

ألم تعلموا يا الحجاج يا خبراء الأسهم، كما للأسهم مهارات وحنك وأسرار، كذلك للصوم أيضا حكمه وكنوزه وأسراره، فكما أن هاموركم في السوق يقودوكم أين تتجهون، ليحميكم ويربحكم، أو حتى يرميكم ويخسفكم، ليخرج هو دائما بحقيبته المملوءة، ويترككم في الصالة الموبوءة، كذلك الصوم لله أسراره وكنوزه لكن دون الخسف والهجر والخزلان يا حجي شعبان ورمضان:

الصوم الطبيب، نعم، انه طبيب من نوع آخر. بعد الآثار الجانبية للإفراط من الكيمياويات والطب البديل، يأتيكم الصوم هدية من الله ليزرع فيكم (الصحة)، ويقلع عنكم (الكحة) ويوقظ في أجسادكم الطبيب الحكيم النائم يا المضاربون، ويعطيكم قوة وحيوية ونشاطا دون رسوم وضريبة المضاربات.. فالمضاربون في البورصات، لا يكلمونك قبل أن يأخذوا الماء والكلاء والقهوة والمدوخ والسيجارة ليستمدوا الوقود والطاقة إلى أسهم (الطاقة) ولاختبار السوق قبل الانهيار.

 

ولخوض المعارك دون أن يضمنوا الرابح والخاسر، لأنهم المضاربون الرابحون مرة والخاسرون أكثر من مرة، لكن المحاربين بطاقة الصوم كسبوا (البدر) الخالد بحروف ذهبية في سجل التاريخ وهم صائمون عن الماء والشاي والقهوة والمدواخ والهريس والخبيص والحلويات واللقيمات، فكان الصوم حكمة وسلاحا وغذاء وكفاحا ونجاحا وطموحا من هنا وهناك.

وفي كل مكان وزمان، ومن قرن إلى قرن، ناهيك انه ظل علاجا تتناقله أجيال الأطباء، منذ ولد الطب مع الحكمة، ويجدر بالطب أن يظل مع الحكمة، ففي مرجع طب التبت الكبير «تشجودشي»، في القرن السادس قبل الميلاد، خصص فصلا كاملا تحت عنوان:

«العلاج بالطعام، والعلاج بالصوم». وفي مصر القديمة، وبشهادة هيرودوت (450 قبل الميلاد)، تبين أن المصريين القدماء كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر. كما أنهم نجحوا في علاج مرض الزهري بالصوم الطويل. ولاحظ هيرودوت أنهم ـ أيامها، وربما بسبب ذلك الصوم ـ كانوا أحد أكثر الشعوب صحة.

وفي اليونان القديمة صام الفيلسوف الحكيم أبيقور (القرن السادس قبل الميلاد) أربعين يوما قبل أن يؤدي «الامتحان الكبير» في جامعة الإسكندرية، لشحذ قواه العقلية وطاقة الإبداع عنده، أما سقراط (470 ـ 399 قبل الميلاد) فإنه كان يصوم عشرة أيام كلما طمح إلى حسم أمرٍ يستحق ذروة التفكير، وأبو قراط، أبو الطب اليوناني القديم (460ـ 370 قبل الميلاد)، كانت وصفته السحرية للحالات المستعصية للمرضى أن يصوموا كآخر ملاذ آمن من انهيار البورصة الداخلية والخارجية من الجسم، إذ كان يكتب روشتة بجملة:

«عليك بالصوم لأن كل إنسان في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نوقظه لنساعده يؤدي عمله»، ثم جاء الروماني جالينوس، في القرن الثاني الميلادي، وأوصى بالصوم كعلاج لكل أعراض «الروح السالبة». وكان يعني بذلك حالات الحزن وفقد الحب وفرط التوتر.

ومن أوروبا العصر الوسيط، انتقل مشعل الطب والحكمة إلى ركن في إمبراطورية الإسلام حيث أعلاه الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا (980 ـ 1037 ميلادية)، ولم يتنازل عن الصوم كدواء، بل كان مفضلا لديه، وكان يقول عن الصوم:

«إنه الأرخص» ويصفه للغني وللفقير، ويعالج به الجدري والزهري وأمراض الجلد، والقائمة تطول وتطول حتى تبلغ أيامنا، في هذا ـ القرن ، قرن الكيمياء الطبية، والفيزياء الطبية.. قرن الهندسة الوراثية، والبيولوجيا الجزيئية، ففي أميركا كان «هنريك تانر» وكتابه: «الصوم أكسير الحياة»، ثم آبتون سنكلير ـ المدافع الصلب عن العلاج بالصوم.

(وكلاهما عمّر حتى سن التسعين). وفي فرنسا كان سوفنير وإيف ففين. أما في الاتحاد السوفييتي فكان الشهير يوري نيكالايف. وحتى الآن مازال في ساحة العلاج بالصوم أسماء كثيرة: بوشنجر الألماني، وآلان كوت الأميركي، وشيلتون الإنجليزى، والسوري محمود البرشة.

الصوم أو الريجيم، والصوم الطبي الذي تناقلته كل تلك السجلات، لم يكن إلا الشكل الأقرب إلى الصوم الإسلامي، حيث لا يتم الامتناع عن أطعمة بعينها والإقبال على أخرى، بل هو امتناع تام عن كل طعام وشراب وتنظيم توقيتاته، أما الامتناع عن الدهون واللجوء للخضروات وترك اللحوم بأكل الأسماك وتناول بعض الأطعمة والتفرغ لغيرها فهو «الريجيم» .

وليس الصوم الطبي الذي ينطبق بحذافيره على صوم شهر رمضان المبارك، حيث صوم تام عن الطعام، ولا شيء حتى الإفطار التدريجي وغير المفرط المنظم بدءا بتمرة وشربة ماء وبعدها الصلاة ثم حساء خفيف وعشاء خفيف وسحور طفيف.. هل هذا ممكن؟

 

نعم ممكن.. لأن هذا ما نفعله منذ البلوغ وعلمونا الصوم والإفطار والفطور والسحور.. والكثرة فينا طيلة ثلاثين يوما يكتفون بتمرة وكأس من الماء أو الحساء ويؤكد علماء وظائف الأعضاء أن الإنسان يمكنه البقاء دون طعام مدة أربعة وسبعين يوماً، شرط أن يتناول ما يكفيه من الماء.

الامتناع العشوائي عن الطعام قد يعرضنا لمخاطرتين أساسيتين: أولاهما انتقال الجسم إلى التغذية الداخلية للحصول على الطاقة اللازمة لاستمرار الحياة. والثانية ـ نفقد كل حيويتنا ونشاطاتنا ونتحول لكتلة لحمية يحكمها الخمول ويلجمها الكسول..

فما نحن في شهر الصوم على طاولات أرزاقنا، إلا طابور من الكسالى التعبانين العاطلين تحت تسمية الصائمين.. بينما الصوم الرمضاني المنظم بفطور وسحور، وما نحن إلا في الميدان فرسان ورثوا السيف والرمح والقرطاس والقلم من البدريين، فهنيئا لكم صومتكم ونومتكم وأكلاتكم وشرباتكم وركعاتكم وصلواتكم.

ومعجزة صوم الإسلام في قروننا تساندها القرون الأولى إذ القرن 19 درس «ف. باشوتين» تأثير الجوع على فيزيولوجيا الحيوان. وتبين له أنه حال انقطاع الإمداد بالطعام من الخارج، ينتقل الجسم إلى تغذية نفسه من الداخل، من المخزون في أنسجة الجسم المختلفة، باستثناء القلب والجهاز العصبي، تماما .

كما يحدث للجيوش الحصيفة إذا ما اشتد الضغط عليها: تظل محافظة على قيادتها وعلى وسائل الاتصال لديها، ووصف باشوتين تلك العملية بأنها نضال أعضاء الجسد الجائع، حيث يساهم كل منها بالمخزون لديه. ولقد قدّر العلماء أن الاحتياطي الذي يمكن الاعتماد عليه داخل الجسم يصل إلى 40 ـ 45% من مجمل وزنه.

ولوحظ أنه حتى درجة فقد 20 ـ 25% من وزن الجسم، لم يتم تسجيل أية تغيرات مرضية غير مرتجعة. وثبت أن الصوم الطبي مدته 30 يوما هو المثالي الذي ينقص الوزن 12ـ 18% دون خطر يُذكر. فكريات الدم الحمراء تنقص في البداية، ولمدة أسبوعين، ثم تبدأ الكريات الجديدة الشابة في الظهور والتكاثر.

ومع انهيار الخلايا الشائخة وتحطمها يحدث ميل خفيف إلى الحموضة، لكن «احمضاض» الدم لا يحدث أبداً، ولا تتغير العظام، لكن نخاع العظام ينكمش قليلاً نظراً لوفرة ما يحتويه من مواد غذائية مدّخرة يساهم بها في عملية التغذية الداخلية.

ويبقى وزن الكليتين ثابتاً تقريباً، أما الكبد فإن وزنه ينقص، لكن هذا النقص يكون على حساب المدخر من الماء والسوائل الذي نستزيد منه بين الإفطار للسحور والجليكوجين (السكر المختزن)، دون المساس بتركيب الخلايا أو عددها. وبينما يمكن أن ينقص وزن العضلات بنحو 40%، فإن عضلة القلب لا تخسر أكثر من 3%. وكل هذه الحالات لا يزيد الجسم إلا قوة تنظيم، ولا ينقصه شيء، والجدير بالذكر أن القلب يرتاح بهذا النوع من الصوم.

وصوم ثلاثين يوما قد أشارت تجارب اثنين من علماء الفيزيولوجيا بجامعة شيكاغو، وهما الدكتوران كارلسون وكوند، إلى ما يدعم ذلك. فقد أكدا أن الإنسان في عمر الأربعين والصائم 30 يوما كل سنة صوما منظما، يبدو جسمه مماثلا بأنسجة شاب في السابعة عشرة من عمره. لكن هذا الأثر غير دائم، ومن ثم يتطلب الأمر معاودة الصوم على فترات أخرى وتحت برنامج مجدول من الأخصائيين للحصول على الشباب من جديد.

كما أظهرت تجارب جامعة شيكاغو أن صوم 30 ـ 40 يوماً يزيد الاستقلاب بمعدل 5 ـ 6%، وحيث إن نقص الاستقلاب يعد مظهراً من مظاهر زحف الشيخوخة، فإن زيادته بالصوم تعني استعادة لبعض من الشباب، أو بلغة أخرى تأجيلاً للشيخوخة.

وعملية تأجيل الشيخوخة هذه عبر الصوم، أكدتها باحثة أخرى هي سوزان سبلجر التي سجلت أن الفئران التي تتغذى على وجبات قليلة البروتين ثم تصوم في اليوم التالي.. عاشت أطول 50% من أقرانها ذوي التغذية العادية، وهذه النظرية تؤكدها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يصوم أياما معينة في الأسبوع وأياما معينة في الشهر، وأياما معينة في فصول الحول والعام.

وكل تلك المؤشرات تؤكد على صوم منظم موقوت بإفطار وإمساك يسلّم الطبيب ـ الحكيم ـ الداخلي الراية للطبيب الخارجي يأمره: «افطر الآن.. تسحر الآن.. امسك الآن.. كل الآن لكن خفيفاً خفيفاً حبة حبيتين من التمر يابا شوية شوية شوربا يا ماما.. وعلى مهلك يا حجي رمضان».

وأخيرا.. تدل الآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم» (البقرة 183)، على أن الصوم عبادة قديمة كتبها الله وفرضها على الأمم السابقة. وقد عرفه الإنسان القديم، وعرفه (الحجي رمضان) المتدين وسيلة من وسائل التقرب إلى الله، وعرفه (مستروكاوباي) غير المتدين السبورت طريقا من طرق الرشاقة والرياضة.

وهو لا يخص طائفة دون طائفة، ولا رسالة دون رسالة، ربما كان شأنا فطريا يشعر المرء بالحاجة إليه في فترات متتابعة أو متفرقة، وإن اختلفت صوره وأوقاته باختلاف العصور والأمم.

فهل يصوم حجي شعبان وحجي رمضان وينضما إليهما حجي رجب ليتوقفوا قليلا عن أمواج التداول وينضما للمضاربين في صفوف التراويح بمعدة فاضية بدل الحقيبة الفاضية ؟

تعليقات 2

ناصر حاجي مالك - الإمارات
الأسلوب الشيق
اتابع قراءة مقالاتك وأجد فيها الأسلوب الشيق في القراءة وترتيب الأفكار بشكل يجذب القارئ إلى مواصلة القراءة كما إن الإسلوب سهل الفهم والإستيعاب أتمنى لك دوام التوفيق والنجاح
   0 0
عبدالهادي - السعودية
مقال لا يشق له غبار . على ضوء فهمنا ندرك أن الإنسان ليس مجرد حيوان يأكل وينام ويتناسل . فهو وإن كان يشترك مع الكائنات الحية في مجموعة من الوظائف ، إلا أنه حقيقة أخرى تختفي وراء الجسد .فهو كائن عقلي يمتلك القدرة للتفكير والبحث فيما وراء هذه الحياة المادية المحدودة التي نسميها الحياة الدنيا . وهو يبحث-فيما لوعاش إنسانيته وليس مجرد حيوانيته-عن مصيره وهدفه . ويصل إلى نتائج طيبة فيما لو أكمل طريقه . وعندها ستنشأ فيه توجهات جديدة راقية وإنسانية تجعل التوجهات الحيوانية الغرائزية أموراً ثانوية ومضبوطة ، وبفعل هذا التحرك والسعي العقلاني المستمر تنبعث من زاوية أخرى من وجوده المخفي توجهات أعلى وأعمق مصبوغة بالشوق والانجذاب والحب ، إنها زاوية القلب التي - في حال اتبع توجهاتها وجذباتها المؤيدة بالعقل ، وازدادت وتيرة تردداتها وانبعاثها تكشف له عن عالم واسع لاحد له ، وليس هذا العالم سوى حقيقة الإنسان المجهولة .لأن الإنسان روح وقلب وحياته الحقيقية التي خلق ليعيشها هي الحياة المعنوية التي تظهر بكامل صورتها يوم القيامة .والله تبارك وتعالى يقول في كتابه المجيد(يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم)آية89 الشعراء
   0 0
أظهر المزيد