أمّاه يا أمّاه.. «في وداعة الله» يا أمّاه

أمّاه يا أمّاه.. «في وداعة الله» يا أمّاه

2007-02-18 00:32:08 UAE

أمّاه يا أمّاه.. «في وداعة الله» يا أمّاه

بقلم :أحمد إبراهيم

أمّاه يا الفاصلة بين الأصل والترجمة، كنت بجوارك وبما تبقّى من أنفاسك وعظامك مع المرض العضال، وانقطعت عن القرّاء الأعزاء إلى أن سلّمت جثمانك أخيرا لحفّار القبور في الأول من المحرم الحرام لهذا العام، وكانت هناك شجون وتراتيل ونغمات ومراثي واستغاثات تنادي كلاًّ من (الأم) الوالدة والأم (الوطن) بصدى:

(أمّاه يا ترنيمة السماء في الأرض بصبر أيوب وطهر مريم العذراء، اليوم على لحدك دموعي وإلى قبرك شموعي، يبكيك اليوم ابنك الضاحك الضحّاك وكان لا يعرف قبل ذلك للبكاء طريقاً، يبكيك وهو يعبد الله وحده لا شريك له: رضي برضاك يا رب العباد وآمنا بقضائك يا قاضي القضاة، لا معبود لي سواك وحدك لا شريك لك، فلا حول ولا قوة إلا بك، وإنا لله وإنا إليه راجعون).

لم أكن كافرا يوما ولكني كنت أعبد الله وحده (يبدو) من حيث لا أدري، ولم أكن شاعرا يوما ولكني كنت أشعر بكل شيء (ويبدو أيضا) من حيث لا أدري، وذلك من خلال أمّ أنجبتني بالمشاعر وعلمتني العبادة، ولم أبالغ في قولتي لأني ابنك ولم اقلها بانحياز لأنك أمّي، وإنما لأنك (الأم)، والأمومة شعيرة افتخرت بها السماء قبل الأرض، واحتضنها أهل السماوات والأرضين.

فالسماء نسبت الأرض ومن فيها من البشر (لأم البشر) يا ابنة حوّاء، والسماء كنَّت فاتحة كتابها ب(أم الكتاب)، والسماء سمَّت أطهر بقعات أرضها ب(أم القرى)، ولقّبت خاتم الأنبياء وأشرف المخلوقات بالرسول (الأمي). كما أوصت الكتب السماوية بالأم خيرا من خلال المسيح عيسى والنبي المصطفى معا، عندما أوصى بك الأخير (أمّك ثم أمّك ثم أمّك ـ الصحيحين) وأوصى بك الآخر (وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ـ مريم:32).

يقال وراء كل عظيم امرأة، ولعلها هي (الأم) وان لم تكن هي العظيمة بذاتها، إذ ليست بالضرورة ان تكون هي برتبة القائد العام لتكون عظيمة في الميدان بل قد تكون فلاّحة أو طبّاخة في الجبهات الخلفية، إذ عظمتها ليست في مهنتها كفلاّحة أو طباخة، قدر ما في جنديّتها بأمومتها.

انها الجنديّة المجهولة في كل الكون والمخلوقة الضعيفة في كل مكان، قد تصنع العظماء ولا يرونها العظماء لأنها تصنع منهم من لا يرجع للخلف ولا ينظر للوراء رغم انها هي الواقفة خلفهم ببطنها لهم وعاء، وثديها لهم سِقاء، وحجرها لهم حِواء، وبيتها لهم قصور الرحمة والحنان، يستمدون منها دون أن تكشف لهم أنها الوقود وأنها المنبت وأنها المأوى لترى كل من لهم أعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها. ألا وهي الأم يا أمة الإسلام.

فهي أضعف خلق الله وأقواهم في آن واحد، انها إنسانة عادية ومخلوقة ضعيفة لدرجة تخشى من نفسها في غطاء (الأم)، وعظيمة لدرجة ينتمي لها كل الإنسانية وكل البشرية في كل الأقاليم والقارات في غطائي (الأمة والأمم).

أمّاه..اليوم دوت أذناي رنين صوتك وأنا اخلط دموع خدي برمال لحدك، ذلك الصوت الذي طالما رفرفرت علي نغماته وأنا طفل في مهدك، ونطقت على إيقاعاته وأنا حبو بين ناظريك وكنت أنطّ كما تنطّ الأرانب بين ذراعيك حتى صار ذلك الصوت جزءًا من كياني وعقلي الظاهر والباطن وأنا أهرب منك. ومن كلماتك ما تذكّرتها وأنا أواريك الثرى: «ابني أحمد.. لا تجري كثيراً وراء أراضي الدنيا، فلن (نحتاج أنا وأنت) من أراضي هذه الدنيا أكثر من لحدين هما متر بمترين».

أمّاه.. اشتقت لنبرات صوتك ان تكلّميني ولو للمرة الأخيرة وأنا افرش التراب وأرشّ الماء على القبر.

وأمّاه يا وطني أفديك ببدني، لأنها كانت أيضا وصية أمّي التي أودعتها التراب فأبت ان ترحل دون وصاياها المألوفة: (بني عليك بالصوم والصلاة، عليك بحسن الجوار عليك بتقوى الله وعليك بحب الوطن والأهل والأقارب وان تحسن من أحسن إليك وتعفو عمن أساء، بني لا تجعل الدنيا كل همّك، ولا تغفل عنها كي لا تعيش محتاجا لغير الله، بني عش صالحا وقويا، وإيّاك ان تعيش ضعيفا، بني أستودعك الله).

محمود درويش: لن أسميكِ امرأة سأسميك كل شيء (متألق يا محمود)

إسلام شمس الدين: حينما أنحني لأقبل يديكِ وأسكب دموع ضعفي فوق صدرك واستجدي نظرات الرضا من عينيكِ. حينها فقط أشعر باكتمال رجولتي (حقاً رجل!).

أمّاه قد رحل الحفّار بعد دفنك برفق، فطوبى لك هذه النومة الهنيئة، لكن (أمّي الوطن) مازالت تعاني من الحفّارين الهدّامين حيث قرر رئيس بلدية الاحتلال في القدس «أوري لوبوليانسكي»، مواصلة الحفريات الأثرية التي تنفذها سلطة الاحتلال في قلب الوطن الكبير (القدس المحتلة).

 

أمّاه أشكري توقيت ربك فلم تسمعي المزيد، ففي حين أغلقت أنا والحفار باب قبرك معطرا بالرياحين والورود وتراتيل القرآن الكريم، أغلق جنود الاحتلال أبواب المسجد الأقصى في وجه المصلين بالرصاص والحجارة واقتحموا المسجد وافترشوا ساحتها بجروح ودماء، ومُنع المصلون لليوم الثاني على التوالي من صلاة الحرم، والحفريات ومعداتها تدق قلب أولى القبلتين.

أماه يوم أنجبتني أنجبت لي الأقدار معايشة الاحتلال الإسرائيلي للقدس، ويبدو من الغد أقدارنا مع حفريات قد تلامس كل شبر من أراضي ومؤسسات ومنازل وشوارع القدس والعراق ولبنان، وبكل أساليب الترغيب والترهيب للكشف عما يزعمه اليهود بالهيكل وميراث الأجداد في مكة والمدينة، فليس هذا حفر الحفّار قدر ما هو «سطو على الآثار» نعم تلك الآثار التاريخية المجزأة من الوطن الأم لفصلها عن أساسات المقدسات الشريفة».

أمّاه طوبي لك رحلتك لنعيم الآخرة، وأما رحلتنا فتبدو مازالت طرقها وعرة، وحفرياتها عميقة، فإليك باقة شاعر وبها مسك الختام:

 

أمّاه قد رحلتي عنا فيا أسفاً

فكلنا مار على الدنيا ويقضيها

آه يا أمي آه يا نسمة روحي

آه يا من أفرح دنياي وأخفى بلاويها

آه يا كل حياتي بل يا أجملها

آه يا دفء الحنان وبالأمان راويها

وما تنفع الآهات من تأوّهها

وإنما تنفع النفس في دعاويها

فقد يكون الرحيل لك نعمة

مما يصيبك في الدنيا وما فيها.

تعليقات 3

Abdelaal
Abdelaal منذ 2 سنوات
والله ابكيتني يا استاذي الفاضل فبلاغتك في الشجن ابكتني
لعظم مكانة الام و هول فقدها
اسال الله ان يرحمها و يرحم امي وامهات المسلمين جميعا
اللهم امين
   0 0
عبدالهادي - السعودية
لم تمت أم أحمد قال الله تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) البقرة 156 أبكيت فيها محبيك الذين ذرفوا دمعا على مثواها الاخير الذي ضم جسدها المرهق مي يستريح من عناء السفر الدنيوي ليحضى بنعيم الآخرة الأبدي مثلما كانت حياتك مميزة كان يوم وفاتها مميز ومشهود وهو في الأول من شهر المحرم الحرام ولم تمت أم أحمد بل أنجبت أبّا عصامّيّا ، معلما ، رحيما ، باراً بوالديه ، كاتباً أحب القُرّاء فبادلوك حبا بحب تحملا بتحمل صبراً بصبر فكلما سلكت معهم واديا سلكوه واثقين أن أباهم يخاف عليهم ولن يرضى لهم الأذى أبدا . فكان يومها مشهود أبا محمد أتتها الناس زاحفة من كل صوب وحدب حملتها على الأعناق وزفتها الى جنان الخلد لم تمت فذكراها باقية فسلام عليها يوم ولدت ويوم وفدت على ربها ويوم تحشر مع النبيين والصدقيين الأبرار. ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم . الفاتحة
   0 0
عبدالهادي - السعودية
أم أحمد لم تمت أبكيت فيه محبيك اللذين ذرفو دمعا أريق على ثرى مثواها الأخير الذي ضم جسدها المرهق مي يستريح من عناء السفر الدنيوي ليحضى بنعيم الآخرة الأبدي مثلما كانت حياتك مميزة كان يوم وفاتها مميز مشهود وهو في شهر المّحرم الحرام ولم تمت أم أحمد فأنجبت أبّ عصاميّا،معلم ،رحيما ، باراً بوالديه ،كاتبا أحبوه قرّاءه فبادلهم حبا بحب تحملاً بتحمل صبرا بصبر فكلما سلك معهم وادياسلكوه واثقين أن أباهم يخاف عليهم ولن يرضى لهم الأذى أبدا . لم تمت فذكراها باقية فسلام عليها يوم ولدت ،ويوم وفدت على ربها، ويوم تحشر مع النبيين والصديقين الأبرار . وإنا لله وإنا إليه راجعون . ولاحول ولا قوة إلابالله العلي العظيم . الفاتحة
   0 0
أظهر المزيد